فصل: مطلب فيما اختص به أبو بكر ورد عائشة على مروان ومعرفة الراهب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال سيبويه واحده شدة. راجع تفصيل ما فيه في الآية 14 من سورة القصص في ج 1. {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} هي نهاية تمام قوته واستوائه وغاية كمال شبابه وعقله وكماله. و لهذا جاء في الحديث أن الشيطان يمر يديه على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ويقول له يأبى وجه لا يفلح.
وأخرج أبو الفتح الأزدي من طريق جديد عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا: «من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره على شره فليتجهز إلى النار».
وقيل في هذا المعنى:
إذا المرء في الأربعين ولم يكن له ** دون ما يهوى حياء ولا ستر

فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى ** وإن جرّ أسباب الحياة له العمر

لأنه والعياذ باللّه ينطبع على ما هو عليه فيصعب تبديل خلقه كما يستحيل تغير خلقه. وفي هذا المعنى أيضا يقول الآخر:
وماذا يبتغي الشعراء مني ** وقد جاوزت سنّ الأربعين

وقال الآخر:
أبعد شيبي أبتغي الأدبا ** وكنت قبلا فتى مهذبا

إلا من شملته عناية اللّه فخصه بلطف منه بسائق ما قدر له في الأزل. لأنه قد يسبق عليه كتابه كما جاء في الحديث الصحيح المار ذكره.
{قال رَبِّ أَوْزِعْنِي} ألهمني و وفقني {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ} بالإيمان والهداية والرشد {وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ} مني بأن يكون خالصا لوجهك {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} بأن تكون صالحة مرضية أنتفع بها وتنتفع بي في الدنيا والآخرة {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 15 قلبا وقالبا {أولئِكَ} أمثال هذا القائل هم {الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا} في الدنيا من الطاعات. لأن المباحات وإن كانت حسنة إلا أنها قد تكون لا حسنة ولا قبيحة فلا يثاب عليها. و لهذا عبّر بالأحسن جل إحسانه القائل {وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ} فلا نؤاخذهم عليها وسيعدّون {فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ} في الآخرة وكان هذا الوعد بالقبول والتجاوز وإدخال الجنة لهؤلاء الشاكرين التائبين {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ} 16 به في الدنيا على لسان رسلهم لا خلف فيه البتة.

.مطلب فيما اختص به أبو بكر ورد عائشة على مروان ومعرفة الراهب:

أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي اللّه عنهم أنها نزلت في أبى بكر الصديق رضي اللّه عنه. وقال علي كرم اللّه وجهه إنها نزلت في أبي بكر حيث أسلم أبواه جميعا. ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أنه أسلم أبواه غيره وأوصاه اللّه بهما. و لزمت هذه الوصية من بعده. وفي قوله كرم اللّه وجهه (مِنَ الْمُهاجِرِينَ) دليل على مدنية هذه الآية. إذ لم تطلق هذه الكلمة على أحد قبل الهجرة.
قال ابن عباس وقد أجاب اللّه دعاءه فأعتق تسعة من المؤمنين كانوا يعذبون في اللّه منهم بلال. ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه اللّه عليه و وفقه لفعله.
وقد أجاب دعاءه بإسلام أهله أيضا فاجتمع له أبواه أبوقحافة عثمان بن عمرو. وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو. وابنه عبد الرحمن. وحفيده أبو عتيق. وكلهم مسلمون.
ولم يجتمع لأحد من الصحابة مثل هذا. وقد صحب رضي اللّه عنه محمدا صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة والنبي ابن عشرين سنة في تجارة إلى الشام. فنزلوا منزلا فيه سدرة. فقعد صلى الله عليه وسلم في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين. فقال له الراهب من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال محمد بن عبد اللّه ابن عبد المطلب نسبة لجده ليعلمه مقامه وقدره لأن عبد المطلب مشهور في مكة وغيرها. وكان يلقب بقاضي العرب وخطيب الحرم ليحترمه. فقال الراهب هذا واللّه نبي. وما استظل تحتها بعد عيسى أحد إلا هذا. وهو نبي آخر الزمان. فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق. فكان لا يفارقه في سفر ولا في حضر. وبعد أن شرفه اللّه بالنبوة امن به. وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ودعا ربه بما حكاه اللّه عنه في هذه الآية.
وما قيل إنها نزلت في سعد بن أبي وقاص لم يثبت. وهو أهل لأن ينزل به قرآن لأنه من العشرة المبشرين بالجنة. ومن رءوس المهاجرين الأخيار وأحبهم إلى النبي المختار. والآية بلفظها عامة يدخل فيها كل من هذا شأنه ويدخل فيها أبو بكر وسعد وأمثالهما من الصحابة دخولا أوليا. وعلى القول بأنها خاصة بالصديق فيكون لفظ الإنسان بالآية من العام المخصوص. لأن لفظ الإنسان لم يأت في القرآن العظيم إلا في سياق الذم. قال تعالى: {قُتِلَ الإنسان ما أَكْفَرَهُ} الآية 17 من عبس {يا أَيُّهَا الإنسان ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} الآية 6 من الأنفطار {يا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحًا} الآية 6 من الأنشقاق {إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ} الآية 2 من العصر في ج 1 وقال: {هَلْ أَتى عَلَى الإنسان} {وَحَمَلَهَا الإنسان} من آخر الأحزاب في ج 3. فهذه كلها في معرض الذم. فتكون الأولى في معرض المدح هنا. إذ ما عموم إلا وخص منه.
قال تعالى: {وَالَّذِي قال لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما} تضجر منهما كراهية لهما راجع الآية 23 من الإسراء في ج1: {أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} هذه الجملة مقول القول أي أأنشر حيّا من قبري بعد بلائي {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} فلم يحيى منهم أحد {وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ} عليه لما سمعا كلامه الدال على إنكار البعث. وعدم الآيمان وصارا يقولان له {وَيْلَكَ} هلاكك من وبال هذا الكلام. وأصل الويل الدعاء بالثبور والهلاك. ويقوم مقام الحث على الفعل أوتركه {آمِنْ} باللّه وصدق رسوله واعتقد بالحياة الآخرة بعد الموت. فقد وعد اللّه به رسله وأخبرونا به {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} واقع لا محالة. وأنه سيدخل المؤمنين الجنة والكافرين به النار البتة {فَيَقول} لهما {ما هذا} الذي تدعوان إليه بأن أصدقه وأقبله {إِلَّا أَساطِيرُ الأولين} 17 خرافاتهم الكاذبة الملعقة. وهذه الآية عامة في كل كافر دعواه والداه إلى الآيمان باللّه ورسوله واليوم الآخر. فلم يفعل ولم يصغ لقولهما. وما زعمه مروان في الحديث الذي رواه البخاري عن يوسف بن ماهك قال:
كان مروان على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له. فقال له عبد الرحمن بن ابي بكر رضي اللّه عنهما شيئا. فقال لشرطته خذوه. فدخل بيت عائشة. فلم يقدروا عليه. فقال مروان هذا الذي أنزل اللّه فيه {وَالَّذِي قال لِوالِدَيْهِ} فقالت عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها من وراء الحجاب ما أنزل اللّه فينا شيئا من القرآن (تريد مما هو يفيد الذم) إلا ما أنزل اللّه في سورة النور من براءتي.
ومما يؤيد قول عائشة وينفي قول مروان عليه ما يستحق من الملك الديان قوله تعالى: {أولئِكَ} العاقون الكافرون هم {الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} بالعذاب المقدر أزلا {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ والإنس إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ} 18 الآخرة كما خسروا الدنيا. وعبد الرحمن رضي اللّه عنه وعن والديه من أفاضل المؤمنين فلا يتصور دخوله في هذه الآية البتة. وإسلام أبويه قبله لا يقتضي نزول هذه الآية فيه. لأن إسلامه جب ما قبله فضلا عن أنه من أبطال المؤمنين. و له مواقف مشهورة يوم اليمامة وغيره. لهذا فلا يعقل نزول هذه الآية فيه. بل هي عامة في كل مؤمنين دعيا أولادهما للإيمان. قال تعالى: {ولكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}بحسب برهم وكمال إيمانهم. و للكافرين الدركات بمقتضى عقوقهم وعصيانهم. وفيه تغليب الدرجات على الدركات {وليُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ} يوم القيامة {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 19 فيها فلا يزاد على سيئات المسيء ولا ينقص من حسنات المحسن.

.مطلب في قوله: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ} الدنيا وكيفية إهلاك قوم عاد:

{وَ} اذكر لقومك يا محمد {يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} فيقال لهم على رءوس الأشهاد {أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها} فلم يبق لكم في الآخرة ما تكافأون عليه لأنكم استوفيتم حظكم في الدنيا {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهونِ} الذي فيه الذل والصغار والخزي والهوان {بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} بطرا. والكبرياء من خصائص الإله فلا يحق لكم أن تتصفوا به بسبب ما خو لكم من نعمه من مال و و لد ورئاسة بل عليكم أن تشكروا نعمه وتتواضعوا لجلاله ليزيدكم (و) يجازيكم أيضا {بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} 20 تخرجون عن طاعته وتتجاوزون حدوده وتقعون في حماه. وقد وصف اللّه تعالى هذا الصنف بالاستكبار وهو من عمل القلب. والفسق وهو من عمل الجوارح. وجعل عذابهم بالذل والهوان بمقابلة ذلك.
روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال: «دخلت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. فإذا هو متكىء على رمال حصير قد أثر في جنبه. فقلت أستأنس يا رسول اللّه؟ قال نعم. فجلست فرفعت رأسي في البيت فواللّه ما رأيت شيئا يرد البصر إلا أهبّة ثلاث. فقلت أدع اللّه أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم ولا يعبدون اللّه. فاستوى جالسا. ثم قال أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا. فقلت استغفر لي يا رسول اللّه».
طلب المغفرة رضي اللّه عنه إذ فهم من كلام صاحبه صلى الله عليه وسلم أن طلبه ذلك مما لا ينبغي أن يقع من مثله وظن أنه أخطأ باقتراحه ذلك. غفر اللّه له ورضي عنه يخاف من مثل هذا وهو مبشر بالجنة. فكيف بنا أيها الناس؟ نسألك اللهم العفو والعافية والرضاء. و لنذكر نبذة مما كان عليه حضرة الرسول لعلنا نتعظ ونقنع بما عندنا رزقنا اللّه القناعة بالدنيا والشفاعة بالآخرة.
روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: «ما شبع ال محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم».
ورويا عنها قالت: «كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا إنما هو (غذاؤنا) الأسودان التمر والماء إلا أن نؤتى باللحم». أي من قبل الغير.
وروى البخاري عن أبي هريرة قال: «لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار أوكساء قد ربطوا في أعناقهم. فمنها ما يبلغ نصف الساقين. ومنها ما يبلغ الكعبين. فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته».
وروى البخاري عن ابراهيم بن عبد الرحمن «أن عبد الرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائما فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني. فكفن في برده إن غطي رأسه بدت رجلاه. وإن غطي رجلاه بدا رأسه. قال وأراه قال قتل حمزة وهو خير مني فلم يوجد ما يكفن به إلا برده. ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط. وقد خشيت أن تكون عجّلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا. ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام».
وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله لا يجدون عشاء. وكان أكثر خبزهم خبز الشعير».
وقال جابر بن عبد اللّه: «رأى عمر بن الخطاب لحما معلقا في يدي. فقال ما هذا يا جابر؟ فقلت اشتهيت لحما فاشتريته. فقال أوكلما اشتهيت يا جابر اشتريت أما تخاف هذه الآية {أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ} إلخ».
وجاء رجل إلى عمر فراه يأكل في قصعة وآخرين يأكلون في قصعة أخرى. فجلس معه بزعمه أن الذي أمامه أحسن فإذا هي عظام وعصب فقال ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال فما تظن. إنا إذا ذبحنا الجزور بعثنا بمطايبها إلى آل محمد صلى الله عليه وسلم. والذي يليه إلى المهاجرين والأنصار. والذي يليه إلى من حضر من المسلمين. وما بقي لعمر وآل عمر. على أننا أعلم بصلاء الجداء منكم. ولكن لا نريد أن يقال لنا غدا {أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ}. إلخ.
وعليه فلا يظن أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبر على قلة الأكل وأدونه لعدم قدرته على غيره. كلا كيف وقد خيره اللّه أن يجعل له جبال مكة ذهبا. ولكن هذا من باب الزهد له صلى الله عليه وسلم و لعمر رضي اللّه عنه. والآية في كفار قريش لأنهم كانوا مستغرقين في لذات الدنيا معرضين عن الآخرة تاركين ما يوصل إليها من خير.
و لهذا ذكرهم اللّه بقوله: {وَاذْكُرْ} يا محمد لقومك الكافرين {أَخا عادٍ} هودا عليه السلام {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ} جمع حقف رمل مستطيل فيه اعوجاج وانحناء يقال احقوقف الشيء أي أعوج أوكثيب الرمل المعوج. وقال ابن عباس هو واد بين عمان ومهرة. فيه ذلك الكثيب المنكسر وإلا فاللغة لا تسمي الوادي حقفا وإنما ذكرهم بهم لأنهم كانوا أكثر منهم أموالا وأولادا وقوة وجاها وقد سلط اللّه عليهم العذاب بكفرهم ليتعظوا بمن قبلهم لئلا يصيبهم ما أصابهم {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ} جمع نذير بمعنى الرسل {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي قبل نبيهم وبعده قال لهم {أَلَّا تَعْبُدُوا} أحدا ولا شيئا {إِلَّا اللَّهَ} وحده المستحق للعبادة {إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ} إن عبدتم غيره {عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 21 في هوله عظيم في عذابه ترتعد له القلوب وتذل فيه الجبابرة وتقشعر له الجلود وتهان فيه الأكاسرة والقياصرة {قالوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا} تصرفنا بما تموه علينا من الكذب {عَنْ} عبادة {الِهَتِنا} التي دأبنا عليها وآباؤنا من قبلنا. كلا لا نقبل منك {فَأْتِنا بِما تَعِدُنا} به من العذاب {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 22 في قولك {قال إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} وحده بوقت مجيء العذاب الذي هددتكم به لم يخبرني به {وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ} من لدنه لتعلموا أني قمت بواجبي نحركم وأديت ما أمرت به {ولكِنِّي أَراكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} 23 أهمية عذاب اللّه ولا تلقوا إليه بالا. فلم يلتفتوا إلى قوله. قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ} أي العذاب الذي وعدهم به نبيهم وقد بينه اللّه بقوله جل قوله: {عارِضًا} في ناحية السماء {مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} قال ابن عباس أوديتهم بين عمان ومهرة. وقيل في مهرة في أراضي حضرموت باليمن. ففرحوا فرحا شديدا. لأن المطر كان حبس عنهم مدة طويلة. وكانوا أهل عمل. إلا أنهم يسيرون إلى المراعي ومواقع القطر في الربيع. فإذا هاج العود ويبس رجعوا إلى منازلهم. وهم من قبيلة إرم {قالوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا} لأن العارض هو السحاب يعرض في ناحية السماء ثم يطبق بافاقها فيمطر إن شاء اللّه. قال الأعشى:
يا من يرى عارضا قد بت أرقبه ** كأنما البرق في حافاته الشعل

وقال الآخر:
يا من رأى عارضا أرقت له ** بين ذراعي وجبهة الأسد

قال تعالى ردا على زعمهم {بَلْ هو ما اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} من العذاب {رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ} 24 لا طاقة لقوى البشر على تحمله ولا تقدر على دفعه. وهذه الجملة صفة ريح لأنه نكرة والجمل بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال. وهذه الريح المشئومة {تُدَمِّرُ كُلَّ شيء} تمر به وتهب عليه {بِإِذْنِ رَبِّها} لأنها مرسلة منه بالعذاب فلا تبقي لما تمر به أثرا. فأهلكهم اللّه جميعا {فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ} خالية. والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية. أولسيد المخاطبين خاصة. وقرىء يرى على الغيبة بالمجهو ل وهي المثبتة بالمصاحف {كَذلِكَ} مثل هذا الجزاء الصارم {نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} 25 قالوا إن تلك الريح كانت تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتى ترى كأنها جرادة. فدخلوا بيوتهم حين رأوها وأغلقوا أبوابها. فقلعت الأبواب وصرعتهم. وأهالت عليهم الرمال سبع ليال وثمانية أيام. حتى دفنتهم وصار لهم أنين تحت الرمال. ثم كشفتها عنهم وحملتهم فرمتهم في البحر وتركت بيوتهم خالية. قالوا وإن هودا عليه السلام خط على نفسه ومن امن به خطا فصارت تمر بهم لينة باردة معجزة له عليه السلام.
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به. وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به. وإذا تخيلت السماء (تغميت. والمخيلة السحاب الذي يظن فيه المطر) تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر. فإذا أمطرت السماء سرّي عنه (كشف وأزيل ما كان به من الغم) فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال لعله يا عائشة كما قال قوم عاد {فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضًا} الآية».